فصل: تفسير الآية رقم (36):

مساءً 11 :10
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)}
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} مفعول لفعل محذوف أي اذكر ذلك الوقت، والمقصود تذكير ما وقع فيه على نهج ما قيل في أمثاله {رَبّ اجعل هذا البلد} يعني مكة شرفها الله تعالى: {ءامَنَّا} أي ذا أمن، فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيًا من إسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار، والفرق بين ما هنا وما في البقرة (126) من قوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} أنه عليه السلام سأل في الأول: أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني: أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنًا كذا في الكشاف، وتحقيقه أنك إذا قلت: اجعل هذا خاتمًا حسنًا فقد أشرت إلى المادة طالبًا أن يسبك منها خاتم حسن؛ وإذا قلت: اجعل هذا الخاتم حسنًا فقد قصدت الحسن دون الخاتمية، وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه نزلة الخبر، وإلى هذا يرجع ما قيل في الفرق أن في الأول سؤال أمرين البلدية والأمن وههنا سئال أمر واحد وهو الأمن. واستشكل هذا التفسير بأنه يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقًا على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة.
قال في الكشف: والتفصي عن ذلك إما بأن المسؤول أولًا: صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة، وثانيًا: إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانًا، وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول، وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسؤول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف، وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولًا أن يكون بلد آمنًا من جملة البلاد التي هي كذلك، ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفًا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه السلام بقوله: {إِنَّى أَسْكَنتُ} [إبراهيم: 37] إلخ اه.
وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم، واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين، فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين وقد حكى أولًا، واقتصر هاهنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكى بقوله: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] إذ المسؤول هويها إليهم للمساكنة كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية وقد حكى بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب قام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل، وهذه الآية وما تلاها أعني قصة إبراهيم عليه السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجًا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد.
وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه صلى الله عليه وسلم ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعدما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفًا فالإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلدًا آمنًا ويرزقهم من الثمرات ويهوى قلوب الناس إليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرمًا آمنًا تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله تعالى أندادًا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام {واجنبنى وَبَنِىَّ} أي بعدني وإياهم {أَن نَّعْبُدَ الاصنام} أي عن عبادتها، وقرأ الجحدري. وعيسى الثقفي {واجنبنى} بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون: جنبه مخففًا وأجنبه رباعيًا وأما أهل الحجاز فيقولون: جنبه مشددًا، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل عنى البعد، والمراد هنا على ما قال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى. وتعقب ذلك الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت؟ ثم قال: والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول: أنه عليه السلاموإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضمًا لنفسه وإظهارًا للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب، والثاني: أن الصوفية يقولون: الشرك نوعان. ظاهر وهو الذي يقول به المشركون. وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى، فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى، ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوي يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم:
ولو خطرت لي في سواك إرادة ** على خاطري سهوًا حكمت بردتي

ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهم السلام، وحيث بنى الكلام على ما قرروه يقال: ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه؟ والجواب الصحيح عندي ما قيل: إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل حض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم، ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال لموسى عليه السلام: يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط.
وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرًا ما يسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها، ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليه السلام فتدبر، والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه، فلا يتوهم أن الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجودًا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام.
وقال سفيان بن عيينة: إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد إسمعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت بل يقال طاف به، وعلى ذلك أيضًا حمل مجاهد البنين وقال: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنمًا وإنما عبد بعضهم الوثن، وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور، وليت شعري كيف ذهبت على هذين الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعي على قريش عبادة الأصنام. وقال الإمام بعد نقله كلام مجاهد: إن هذا ليس بقوي لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة، ومن هنا قيل عليه: إن فيما ذكره كرًا على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضًا: واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الايمان ليس إلا من الله تعالى لأنه عليه السلام إنما طلب التبعيد عن عبادة الأصنام منه تعالى، وحمل ذلك على الألطاف فيه ما فيه.

.تفسير الآية رقم (36):

{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}
{رَبّ إِنَّهُنَّ} أي الأصنام {أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} أي تسببن له في الضلال فإسناد الإضلال إليهن مجازي لأنهن جماد لا يعقل منهن ذلك والمضل في الحقيقة هو الله تعالى، وهذا تعليل لدعائه عليه السلام السابق، وصدر بالنداء إظهارًا للاعتناء به ورغبة في استجابته {فَمَن تَبِعَنِى} منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام {فَإِنَّهُ مِنّى} يحتمل أن تكون {مِنْ} تبعيضية على التشبيه أي فإنه كبعضي في عدم الانفكاك، يحتمل ويحتمل أن تكون اتصالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ كرم الله تعالى وجهه: «أنت مني نزلة هرون من موسى» أي فإنه متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين، وتسميتها اتصالية لأنه يفهم منها اتصال شيء جرورها وهي ابتدائية إلا أن ابتدائية باعتبار الاتصال كذا في «حواشي شرح المفتاح الشريفي»، يعني أن مجرورها ليس مبدأ أو منشأ لنفس ما قبلها بل لاتصاله، فإما أن يقدر متعلقها فعلًا خاصًا كما قاله الجلال السيوطي في بيان الخبر من أن {مِنّي} فيه خبر المبدأ {وَمِنْ} اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة عنى أنت متصل بي ونازل مني نزلة هرون من موسى، وإما أن يقدر فعل عام كما ذهب إليه الشريف هناك أي منزلته نزلة كائنة وناشئة مني كمنزلة هرون من موسى عليهما السلام، وتقديره خاصة هنا كما فعلنا على تقدير جعلها اتصالية مما يستطيبه الذوق السليم دون تقديره عامًا {وَمَنْ عَصَانِى} أي لم يتبعني، والتعبير عنه بالعصيان كما قيل للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأن الدعوة لم تبلغه. وفي البحر أن بين الاتباع والعصيان طباقًا معنويًا لأن الاتباع طاعة {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي قادر على أن تغفر له وترحمه، وفي الكلام على ما أشار إليه البعض حذف والتقدير ومن عصاني فلا أدعو عليه فإنك إلخ، وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا إشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في «شرح مسلم» من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وإنما امتنعت في شرعنا.
واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك إلى السدي. ومنهم من ذهب إلى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عمل تقتضيه المعادلة. وروى ذلك عن مقاتل. وفي رواية أخرى عنه أنه قال: إن المعنى ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب.
ومنهم من قال: المعنى ومن لم يتبعني فيما أدعو إليه من التوحيد وأقام على الشرك فإنك قادر على أن تستره عليه وترحمه بعدم معاجلته بالعذاب، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] ومنهم من قال: إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله سبحانه لا يغفر الشرك، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلًا كما تقرر في الأصول لكن الدليل السمعي منع منها، ولا يلزم النبي أن يعلم جميع الأدلة السمعية في يوم واحد. والإمام لم يرتض أكثر هذه الأوجه وجعل هذا الكلام منه عليه السلام شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وأنه دليل لحصول ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: إن المعصية المفهومة من الآية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو قبلها، والأول والثاني باطلان لأن {مِنْ عَصَانِى} مطلق فتخصيصه عدول عن الظاهر، وأيضًا الصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفر إن عند الخصم فلا يمكن اللفظ عليه فثبت أن الآية شفاعة لأهل الكبائر قبل التوبة، ومتى ثبتت منه عليه السلام ثبتت في حق نبينا عليه السلام والسلام لمكان {اتبع مِلَّةَ إبراهيم} [النحل: 123] ونحوه، ولئلا يلزم النقص وهو كما ترى، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فتذكر هداك الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (37):

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
{رَبَّنَا} قال في البحر كرر النداء رغبة في الإجابة والالتجاء إليه تعالى، وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره عليه السلام وذكر بنيه في قوله: {واجنبنى وَبَنِىَّ} [إبراهيم: 35] وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في {رَبّ إِنَّهُنَّ} [إبراهيم: 36] إلخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد، فالوجه إن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادئ إجابته من قوله: {إِنَّى أَسْكَنتُ} إلخ متعلق بذريته، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسؤول، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر {وَمِنْ} في قوله: {مِن ذُرّيَّتِى} عنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي، ويجوز أن يكون المفعول محذوفًا والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي {وَمِنْ} تحتمل التبعيض والتبيين. وزعم بعضهم أن {مِنْ} زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى، والمراد بالمسكن إسمعيل عليه السلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي: {لِيُقِيمُواْ} إلخ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز، وهذا الإسكان بعدما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان.
وذلك أن هاجر أم إسمعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسمعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلا المسجد وليس كة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقًا فتبعته هاجر فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مراراف وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذن لا يضيعنا ثم رجعت، وانطلق عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبّ إِنّى أَسْكَنتُ إلى لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} ثم أنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروءة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعًا، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه تريد نفسه ثم تسمعت فسمعت أيضًا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله سبحانه لا يضيع أهله، ثم أن مرت بهما رفقة من جرهم فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه أمرأة منهم وتمام القصة في كتب السير.
{بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} وهو وادي مكة شرفها الله تعالى، ووصفه بذلك دون غير مزروع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحًا للزرع، ونظيره قوله تعالى: {قُرْءانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} [الزمر: 28] وكان ذلك لحجريته، قال ابن عطية: وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن الله تعالى لا يضيع إسماعيل عليه السلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد، وقال أبو حيان بعد نقله وقد يقال: إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه، وقال بعضهم: إن طلب الماء لم يكن مهمًا له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بيانًا لكمال الافتقار إلى المسؤول فتأمل.
{عِندَ بَيْتِكَ المحرم} ظرف لأسكنت كقولك: صليت كة عند الركن، وزعم أبو البقاء أنه صفة {وَادٍ} أو بدل منه، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره، فإنهم قالوا: معنى كون البيت محرمًا أن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعًا عزيزًا يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقًا على ما قيل، وأبعد من قال إنه سمي محرمًا لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالًا عليهم، وسماه عليه السلام بيتًا باعتبار ما كان فإنه كان مبنيًا قبل، وقيل: باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك.
{رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة} أي لأن يقيموا، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، والجار والمجرور متعلق بأسكنت المذكور، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقغ الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك.
وهذا الحصر على ما ذكروا مستفاد من السياق فإنه عليه السلام لما قال: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} نفى أن يكون إسكانهم للزراعة ولما قال: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} أثبت أنه مكان عبادة فلما قال: {لِيُقِيمُواْ} أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نتفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في {رَبَّنَا} من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود.
وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر، فقد استدل بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] على حرمة أكلها وفي الكشف أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان، أخبر أولًا أنه أسكنهم، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} ثم صر ثانيًا بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل {رَبَّنَا} ثانيًا بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار {رَبَّنَا} إلا من هذا الوجه اه، واختار بعضهم ما ذكرنا أولًا في وجه الاستفادة وقال: إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار حذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويجعل النداء مؤكدًا للأول يندفع ما قيل: إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلابد من تقدير متعلق، ووجه الاندفاع ظاهر، وقيل: اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن الجوزي: أن اللام متعلقة بقوله: {اجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصنام} [إبراهيم: 35] وفي قوله: {لِيُقِيمُواْ} بضمير الجمع على ما في البحر دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس} أي أفئدة من أفئدتهم {تَهْوِى إِلَيْهِمْ} أي تسرع إليهم شوقًا وودادًا فمن للتبعيض، ولذا قيل: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق.
وروى عن ابن جبير أنه قال: لو قال عليهم السلام: أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى.
وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسؤول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإنه عين الدعاء بالبلدية قد حكى بعبارة أخرى اه. وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروى وكون المسؤول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس، ومجاهد كما في الدر المنثور. وغيره، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت.
فقد أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة. وطاوسًا. وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية {فاجعل} إلى آخره فقالوا: البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه، وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا؛ نعم هو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون {مِنْ} للابتداء كما في قولك: القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل: أفئدة ناس، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس. وتعقبه بعض الأجلة بقوله: وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله: {إِلَيْهِمُ} وفيه تأمل اه وكأن فيه إشارة إلى ما قيل: من أن الابتداء في {مِنْ} الإبتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقًا، وإن جعلناها متعلقة بتهوى لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلامًا لا يخلو عن بحث فقال: اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انهاء مخصوص إذ كان المعنى لا يقتضي إلا بالمبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو.
وقد قيل: إن جميع معاني {مِنْ} دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله: {وَهَنَ العظم مِنّى} [مريم: 4] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضًا منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للإبتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من «شراح الكشاف» لكنه معنى غامض فتدبر، والأفئدة مفعول أول لا جعل وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في البحر.
وغيهر بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل: الأفئة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة {تَهْوَى} وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدي باللام كما في قوله:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها ** طارت وفي كفه من ريشها تبك

وإنما عدى بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله:
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ** ما مؤمن الجن كأنجاسها

ولما كان ما تقدم كالمبادى لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله: {فاجعل} إلى آخره وقرأ هشام {أفئيدة} بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله:
أعوذ بالله من العقراب ** الشائلات عقد الأذناب

ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا: إن هشامًا قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضًا من الهمزة. وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك. وقرئ {آفدة} على وزن ضاربة وفيه احتمالان. أحدهما: أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما: ساكنة فقبلت ألفًا فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت ألفًا فصار آدر. وثانيهما: أنه اسم فاعل من أفد يأفد عنى قرب ودنا ويكون عنى عجل، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة. وقرئ {أفدة} بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال، وهو أما صفة من أفد بوزن خشنة فكيون عنى إفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء.
قال الأولون: إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين، وقال صاحب النشر من الآخرين: الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤول وأفئدة وقرآن وظمآنان فيها وجه واحد وهو النقل وحكى وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جدًا وكذا قال غيره منهم، فما قيل: إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه. وقرأت أم الهيثم {أفودة} بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة لكني لا أعرف هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اه.
وقال أبو حيان: يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب إذ الأصل أوفدة، وجمع فعل على أفعلة شاذ. ونجد وأنجدة ووهى وأوهية، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {إفادة} على وزن إمارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: إشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ مسلمة بن عبد الله {وَمَا تَهْوَى} بضم التاء مبنيًا للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية منهوى اللازم كأنه قيل: يسرع بها إليهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وجماعة من أهله. ومجاهد {تَهْوَى} مضارع هو عنى أحب، وعدى بإلى لما تقدم {وارزقهم} أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك. وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمئمنين منهم كما في قوله: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الاخر} [البقرة: 126] اكتفاء على ما قيل بذكر إقامة الصلاة.
{مِنَ الثمرات} من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائفي كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقًا للحرم. وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعًا ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة. وروى نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل، فلينظر ما وجه الحكمة فيه، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} تلك النعمة بإقامة الصلاة وإداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسؤول، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام.